حرفة النحاس في القيراون تأبى الاندثار بفضل الابتكار

حرفة النحاس في القيراون تأبى الاندثار بفضل الابتكار

القيروان (تونس) - على مقربة من "باب تونس" بالمدينة العتيقة بالقيروان (وسط)، تتناهى إلى مسامع الزوار وقع المطارق على رقائق النّحاس، لتحوّلها إلى أواني جاهزة للطّهي والأكل.

إيقاع منتظم ينبض على حركة وجلبة الأسواق العتيقة، وأصوات الباعة التي تتعالى بين الحين والآخر مشيدة بجمال ما يعرضونه من منتجات، طمعا في استقطاب الزبائن لابتياع منتجات متقنة الصنع.

الابتكار.. مضاد الاندثار

بحركته السريعة والمنتظمة وهو يلمّع أوان نحاسية وينفض عنها الغبار، وابتسامته التي لا تفارق محياه، بدا من الواضح أن محمد الهادي الشابي يقوم بعمل محبّب إلى قلبه.

كان منهمكا وسط محله المخصص لصنع أطباق نحاسية، بسوق "النّحاسين" بالقيروان، ويداه تمسكان بحرص بالغ على الأواني التي تجلبها أسر قيروانيّة لتلميعها مع اقتراب احتفالاتها ومناسباتها العائلية.

ويقول الحرفيّ الذي يشغل أيضا أمين سوق النحاسين (يشرف على عملية تعيير النّحاس): "حبنا للنحاس وحرصنا على المحافظة عليه مكننا من توارث هذه المهنة عن الأجداد".

ولفت أن "بقاء هذه الحرفة على قيد الحياة وصمودها كان بفضل حرص العاملين فيها على ابتكار تصاميم عصرية تتماشى مع احتياجات الأجيال الجديدة".

واضاف ان "حرفة النحاس المطروق تقليدية، وضاربة في القدم وهي اليوم مورد رزق عشرات الحرفيين في المدينة".

معدن ثمين يضاهي الذهب

وخلال المناسبات الاحتفالية والأعياد، وخصوصا في شهر رمضان والمولد النبوي، يتحول "سوق النحاسين" القريب من جامع عقبة بن نافع بمدينة القيروان، إلى معرض مفتوح أمام أبناء المدينة والزوار.

وتعرض أنواع مختلفة من الأطباق المصنوعة من النحاس المطروق في حلة براقة تجذب الأنظار إليها بتصاميمها ودقة صنعها.

ويجد الزبائن في هذه السوق تشكيلات متنوعة من الأواني النحاسية التي أبدع الحرفيون في صناعتها بطريقة لا تقل دقة عن منتجات المصانع، فمنها ما هو مخصص للطبخ ووضع المأكولات والحلويات، ومنها ما يستعمل للعطور والديكور، وتحف ثمينة تقدم هدايا.

"كنز يضاهي الذهب"، هكذا عقّب الشابي، مضيفا أن "النحاس يعدّ معدنا ثمينا، حيث تحافظ الآنية النحاسية على ثمنها مهما طال استعماله"، مشيدا بالفوائد الصحية للأواني النّحاسيّة في الطبخ".

وسوق النّحاسين عبارة عن متاجر متجاورة في أروقة متوازية، وتتنوع اختصاصات المتاجر وتشمل نشاطات تتعلق بمختلف مراحل صناعة النحاس.

دقّة وبراعة وفن الإتقان

وبخصوص مراحل تشكّل أواني النحاس، يقول الشابي، إن الحرفيين يحصلون على النحاس الذي تستورده شركات خاصة، في شكل رقائق مختلفة السمك والحجم.

ويقوم الحرفيون بقصّ الرقائق إلى قطع بحسب الأشكال المراد صناعتها، ثم يتم تليينها بالمطرقة لتأخذ الشكل المناسب، ويتم طرقها مرة ثانية لتصبح صلبة وثابتة.

واعتبر الشابي ان "صناعة النحاس هنا يدوّية بالأساس، ولا تتدخل فيها الآلة، وترتكز على الدّقة اللامتناهية"، مشيدا ببراعة الحرفيين في مضاهاة ما تقوم به الآلات".

أما عملية التلميع لتحويل الأواني المصنوعة من لونها النحاسي الأحمر إلى لون فضي لامع، وهي آخر المراحل قبل العرض وتسمى عملية "القصدرة"، فتتم بعد تنظيف الإناء المصنوع حديثا بواسطة سائل حمضي في محل مخصص للغرض لإزالة الشوائب وصدأ النحاس.

ويُسلّم الإناء إلى دكان آخر فيضعه الحرفي المتخصص على نار شديدة الاشتعال وقودها الفحم الحجري الأسود، وعندما يصبح أشبه بكتلة لهب، تنثر عليه حبيبات من مسحوق معدن الزنك الذي يمرره الحرفي بواسطة قطعة من القطن على كامل مساحة الإناء وتجويفاته، فيتغير سريعا وكأنّه مصبوغ بلون فضي لامع.

وتتم هذه العملية بحذر وسرعة قبل وضع الإناء في فضاء العرض بانتظار الزبائن.

ويؤكد الحرفيون أن "الأواني النحاسية لا تفقد قيمتها وإذا شابها أي شائب من سواد دخان الموقد او غيره، فيمكن تلميعه ثانية وإخراجه في حلة جديدة كما يمكن تغيير شكل الاناء مجددا حسب رغبة الحرفاء".